التحديث السياسي وأثره على الاقتصاد الوطني
بقلم : محمد حمادات .
مقدمة:
في العام ٢٠٢١ ومع دخول الأردن مئويته الثانية، أطلقت الدولة الأردنية مشروع التحديث السياسي كخطوة استراتيجية تعكس الحاجة إلى تحديث النظام السياسي بما يتماشى مع التحديات والمتغيرات المحلية والإقليمية٬ فمضمون التحديث السياسي يركز على السبل والأدوات السياسية التي تؤدي بالنتيجة إلى تعزيز المشاركة السياسية من خلال تطوير الأطر التشريعية وإحياء الحياة الحزبية وتنشيطها من خلال تمكين فئات المجتمع كافة، ولا سيما الشباب والمرأة، للمساهمة في صياغة القرارات الوطنية٬ وضرورة التحديث السياسي ليس فقط لتعزيز الديمقراطية، بل أيضًا لضمان استقرار سياسي مستدام يُمكّن الأردن من الاستمرار في مسيرته التنموية ويعزز من صموده أمام هيجان هذا الإقليم المضطرب والتحديات الناجمة عن موقع الأردن الجغرافي٬ حيث توقيت تنفيذ المشروع يتزامن مع مرحلة فارقة في تاريخ الدولة وأيضا الاقليم من حولنا، ففي الوقت الذي كان فيه الأردن يتطلع إلى تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع التحديث بمساراته الثلاثة تفجر الإقليم وفي هذا المقال سنناقش أهمية مشروع التحديث وأثره على الاقتصاد الوطني ولا سيما في ظل التحديات الحالية.
بدايةً فهذا المشروع السياسي لم يأتي منفصلًا، بل هو جزء من رؤية أشمل لمئوية الدولة الثانية، تتضمن أيضًا رؤية التحديث الاقتصادي وخارطة تحديث القطاع العام٬ حيث يتقاطع التحديث السياسي مع رؤية التحديث الاقتصادي في خلق بيئة مستقرة تُشجع على الاستثمار، وتضمن الشفافية والنزاهة في التعاملات الحكومية، ما يعزز الثقة بين المستثمرين والقطاعين العام والخاص٬ ومن جانب آخر، تسعى خارطة تحديث القطاع العام إلى تحسين كفاءة المؤسسات الحكومية، وضمان تقديم خدمات أفضل، ما يُسهم في دعم الأطر التشريعية والسياسية التي يدعمها مشروع التحديث السياسي٬ فهذه المسارات الثلاثة متكاملة في هدفها النهائي لبناء دولة حديثة، مرنة، وقادرة على المضي قدمًا بين لهيب النار من حولها وتحقيق تطلعات شعبها.
استقرار سياسي وتنمية اقتصادية:
من النتائج المتوقعة لمشروع التحديث السياسي تعزيز الاستقرار السياسي حيث يُعد هذا الاستقرار ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، ومشروع التحديث السياسي الذي أطلقته الدولة الأردنية يلعب دوراً محورياً في تعزيز هذا الاستقرار من خلال إعادة صياغة الأطر السياسية والقانونية، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وزيادة فعالية المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وإعادة الثقة بين المستوى الشعبي والرسمي مما سينعكس أثره على ثقة الحكومة وفعالية اداءها مما يخلق بيئة سياسية أكثر شمولية وشفافية.
وعند الحديث عن بناء الثقة بين المواطنين والحكومة فإن أثرها يتجاوز حقل السياسة ويغدو لها آثار اجتماعية واقتصادية من خلال تمكين مختلف الفئات الاجتماعية، وخاصة الشباب والمرأة، وفتح المجال أمام مشاركة أوسع في صنع القرار، حيث يعزز التحديث السياسي من شرعية المؤسسات السياسية٬ هذا بدوره يخلق مناخاً سياسياً أكثر استقراراً ويقلل من فرص التجاذبات الاجتماعية أو السياسية، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على الاقتصاد٬ فالاستقرار السياسي يعني انخفاضاً في المخاطر المرتبطة بالاستثمار، سواء كانت استثمارات محلية أو أجنبية، مما يزيد من ثقة المستثمرين ويحفز تدفق رؤوس الأموال إلى السوق المحلي.
إلى جانب ذلك، يسهم الاستقرار السياسي في تحسين مناخ الأعمال بشكل عام٬ فبتطوير النظام سياسي وتعزيز مستويات الشفافية والنزاهة، تصبح السياسات الاقتصادية أكثر وضوحاً واستقراراً، مما يقلل من حالة عدم اليقين التي قد تعيق قرارات المستثمرين والشركات٬ كما أن التحول الديمقراطي وما يرافقه من اصلاح للقطاع العام ومشاركة مجتمعية أوسع في صنع القرار فإن هذا سينعكس إيجابا على سيادة القانون ويعزز منها ويقلل من الفساد، وسيادة القانون وتقليل الفساد
عاملان أساسيان في جذب الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي٬ عندما يشعر المستثمرون بأن بيئة القطاع العام تسير وفق منظومة محوكمة خالية من الفساد والتدخلات غير المشروعة، فإن ذلك يزيد ذلك من استعدادهم لضخ المزيد من الاستثمارات، وبالتالي تنشيط الاقتصاد الوطني.
علاوة على ذلك، يساهم التحديث السياسي في استدامة الاستقرار الاجتماعي، الذي يعتبر عنصراً مهماً لتحقيق التنمية الاقتصادية٬ من خلال خلق بيئة سياسية تشمل الجميع، يطور آليات الاتصال بين الحكومة والمجتمع، ويعزز من إحساس المواطنين بالمسؤولية المجتمعية ويسود مفهوم المواطنة وبالتالي الحرص المجتمعي على المشاركة في تحقيق الأهداف الوطنية٬ هذه المشاركة التي تعزز من استقرار الدولة على المدى الطويل، حيث يُصبح المواطنون شركاء في العملية السياسية والاقتصادية.
وبالمحصلة، فإن مشروع التحديث السياسي يخلق قاعدة صلبة للاستقرار السياسي، هذا الذي ينعكس بشكل مباشر وإيجابي على الاقتصاد الوطني٬ فأثر لاستقرار السياسي لا يقتصر على ضمان هدوء المشهد السياسي، بل يتعدى ذلك إلى كونه عاملاً رئيسياً في بناء بيئة اقتصادية قوية ومستدامة، قادرة على جذب الاستثمارات وتحقيق النمو الشامل الذي ينعكس على المواطنين كافة وبشكل مباشر.
تحديات في الطريق:
يعد التحديث السياسي في الأردن خطوة حاسمة لتعزيز الاقتصاد الوطني، ولكن هذا يعتمد بشكل كبير على التغلب على مجموعة من التحديات التي قد تعيق تحقيق تلك الطموحات.
لعلِّ من أبرز هذه التحديات يتمثل في التباين الكبير بين البرامج الحزبية والمرجعيات الأيديولوجية السياسية المختلفة فسمة الحياة السياسية في الديمقراطيات هي التنوع والتجاذب الأيديولوجي٬ ولعلٍّ خصوصية الأحزاب الأردنية أنها لم تطور بعد خطابها السياسي ولم تعالج بعد التحديات الوطنية من خلال مقارباتها الخاصة ولا زال كل ما تطرحه شعارات وعناوين برّاقة خالية الدسم من المضمون السياسي وهذا طبيعي بجكم قصر عمر التجربة السياسية لهذه الأحزاب٬ وبرغم هذا التحدي والنظر الى ما هو كائن الان فإن فالمشهد السياسي الأردني وبالعناوين الاقتصادية المطروحة يعاني من غياب توافق حقيقي بين الأحزاب حول السياسات الاقتصادية اللازمة لتحقيق التنمية٬ فالأحزاب تتبنى رؤى اقتصادية متباينة تعتمد في كثير من الأحيان على أيديولوجيات متعارضة، مثل الأولويات التي تمنحها بعض الأحزاب للعدالة الاجتماعية في مقابل تركيز أخرى على السوق الحر والاستثمار الأجنبي٬ ومقابلها كلها أحزاب تنظر الى الاقتصاد بمرجعية إسلامية وغير قادرة بالضبط على الموازنة بين خطابها السياسي وبرنامجها الاقتصادي٬ فهذا التباين يعزز من حالة عدم الاستقرار في السياسات الاقتصادية وقد يكون له أثر سلبي على إمكانية تطبيق سياسات اقتصادية متسقة ومستدامة٬ فالإصلاح الاقتصادي يحتاج الى بناء الحكومات المتعاقبة على عملها وثباتا في الرؤية الاقتصادية والسير ضمن استراتيجية تتضمن عددا من الخطط الاقتصادية تحمل أهدافا واضحة ورؤية يفهمها الجميع ويعمل ضمنها.
ومن التحديات التي لا يجب إغفالها وتحد من قدرة التحديث السياسي على تحقيق الأثر الاقتصادي المرجو هو عدم الاستقرار الإقليمي الذي يحيط بالأردن٬ فالمنطقة تشهد اضطرابات وصراعات مستمرة تؤثر بشكل مباشر على الداخل الأردني٬ حالة عدم الاستقرار هذه تفرض ضغوطًا على الموارد الاقتصادية وانقطاعا لسلاسل التوريد وتزيد من التزامات الأردن الأمنية والسياسية، مما يحرف الأولويات الوطنية بعيدًا عن التنمية الاقتصادية والإصلاحات السياسية٬ إضافة إلى ذلك، يؤدي هذا التوتر إلى خلق مناخ من عدم اليقين لدى المستثمرين الأجانب والمحليين، الذين يفضلون بيئات أكثر استقرارًا لاستثماراتهم كما تشكل التوترات الإقليمية ضربة قاصمة للقطاع السياحي حيث يعتبر هذا القطاع أخد القطاعات الحيوية في الأردن والذي تركز الدولة بشكل كبير على دعمه والاستثمار فيه نظرًا لثراء الأردن بالمواقع الأثرية والطبيعية والسياحة العلاجية والدينية .
علاوة على ذلك، يشكل الوضع الاقتصادي الحالي في الأردن تحديًا كبيرًا أمام أي محاولات لتحسين الوضع الاقتصادي عبر التحديث السياسي٬ يعاني الأردن من معدلات بطالة مرتفعة، خاصة بين فئة الشباب، فضلاً عن مديونية عامة متزايدة تضغط على ميزانية الدولة وتحد من قدرتها على تمويل مشاريع تنموية كبرى٬ أي محاولة لتحسين الوضع الاقتصادي ستحتاج إلى معالجة هذه التحديات الجذرية أولاً، وهي عملية طويلة ومعقدة يتراكم معها تحديات إقليمية ودولية٬ فكلما اعتقدنا اننا خرجنا من أزمة دخلنا في أخرى.
من جانب آخر، تعاني المؤسسات الحكومية من بيروقراطية معقدة وإجراءات إدارية بطيئة، مما يعيق تنفيذ أي إصلاحات سياسية أو اقتصادية بكفاءة٬ وتبذل الحكومة في هذا المجال محاولات عديدة ومبادرات مقدرَّة في الانتقال نحو رقمنة الخدمات الحكومية كما ان مشروع تطوير القطاع وهو مسار تحديث موازٍ لمسار التحديث السياسي يعزز من قدرة الدولة على تنفيذ الإصلاحات المأمولة والتي تتطلب تعاونًا بين مختلف الجهات الحكومية، وتبقى البيروقراطية المفرطة تحديا قد يؤدي إلى تأخير تنفيذ هذه السياسات٬ هذا التحدي يحد من قدرة الدولة على الاستجابة السريعة للتغيرات الاقتصادية أو الاستفادة من الفرص التي قد تنشأ نتيجة للتحديث السياسي.
في المجمل، يتطلب نجاح التحديث السياسي في تحقيق أثر اقتصادي إيجابي معالجة شاملة لهذه التحديات عبر تطوير توافق حزبي حول السياسات الاقتصادية، تعزيز الاستقرار الوطني في ظل تحديات الاقليم، تحسين الكفاءة المؤسسية، والتغلب على التحديات الاقتصادية الحالية٬ بدون حل هذه القضايا، قد يبقى الأثر الاقتصادي للتحديث السياسي محدودًا أو غير ملموس على المدى القريب.
خاتمة:
لا شك أن التحديث السياسي في الأردن يمثل فرصة مهمة لتعزيز الاستقرار السياسي وبالنتيجة تحسين الاقتصاد الوطني ، لكنه في الوقت ذاته يواجه مجموعة من التحديات المعقدة التي قد تعيق تحقيق الأثر الإيجابي المتوقع. التباين الكبير بين الأحزاب السياسية وبرامجها الأيديولوجية يشكل تحديًا محوريًا، حيث أن غياب توافق سياسي حول السياسات الاقتصادية يؤدي إلى تقلبات في تنفيذ الاستراتيجيات التنموية، ما يؤثر بشكل مباشر على استقرار الاقتصاد واستدامة النمو. إذا لم يتمكن النظام السياسي من تجاوز هذه الانقسامات، فإن التحديث السياسي قد يتحول إلى عامل يساهم في تعميق التباينات بدلًا من تعزيز الاقتصاد.
بالإضافة إلى ذلك، يشكل عدم الاستقرار الإقليمي تهديدًا مستمرًا٬ الأردن يقع في منطقة مليئة بالصراعات والنزاعات، وهذه العوامل الخارجية تفرض ضغوطًا إضافية على الموارد الوطنية وتعيق الجهود الداخلية للتحديث٬ ففي بيئة تتطلب توجيه موارد كبيرة للأمن والدفاع، يصبح من الصعب توجيه تركيز الحكومة بشكل كامل نحو الإصلاحات الاقتصادية والسياسية٬ كما أن عدم الاستقرار هذا يولد حالة من القلق بين المستثمرين، الذين يبحثون عن بيئات استثمارية أكثر استقرارًا وأمانًا.
ختامًا، يمكن القول إن التحديث السياسي في الأردن لا يمثل حلًا سحريًا للمشكلات الاقتصادية، بل هو عملية طويلة ومعقدة تتطلب معالجة متكاملة وشاملة لمجموعة من التحديات. ورغم أن الطريق مليء بالعقبات، فإن النجاح في تجاوز هذه التحديات يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للنمو الاقتصادي ويخلق بيئة أكثر استقرارًا وازدهارًا. الأمر يتطلب تنسيقًا مستمرًا بين الفاعلين السياسيين، ودعمًا مؤسسيًا قويًا، وإدارة حكيمة للتحديات الإقليمية، حتى يتمكن التحديث السياسي من تحقيق الأثر الإيجابي المنشود على الاقتصاد الأردني