صناعة السياحة اراء ووجهات نظر
بقلم:سلامة الدرعاوي
(1)
السياحة العلاجية
تتصاعد الحاجة اليوم لاستعادة الزخم في قطاع السياحة العلاجية في الأردن، وسط تحديات إقليمية ودولية معقدة تؤثر على حركة الزوار والسياح، فهي تمثل محورا استراتيجيا للأردن منذ سنوات، وقد كان الأردن في السابق وجهة مفضلة للعديد من المرضى من دول الخليج والدول المجاورة بفضل توفر بنية تحتية طبية متطورة وتكاليف علاجية تنافسية وخدمات متكاملة اعطته ميزة تنافسية عالية عن باقي المنطقة.
لكن الأحداث السياسية والاضطرابات في المنطقة، بما في ذلك العدوان المستمر على غزة وامتداد الصراعات إلى جنوب لبنان، تركت آثارا سلبية على هذا القطاع، والتفكير مليا في الأوضاع الأمنية بات يهيمن على قرارات الزوار، مما يتطلب من الأردن إعادة رسم إستراتيجياته لاستقطاب السياح في ظل هذه الظروف الصعبة.
زيارة رئيس الوزراء إلى وزارة الداخلية واجتماعه بالمعنيين من القطاعين العام والخاص حملت رسالة صارمة: لا مجال للتراخي، وعلى الجهات المسؤولة إزالة كافة العقبات فورا، فالقطاع الطبي في الأردن لا يمكن أن يظل رهين التعقيدات الإدارية أو بطء الإجراءات، والمطلوب هو خطوات حاسمة تترجم إلى نتائج ملموسة على الأرض، فالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص ليس خيارا، بل إلزام يفرضه الواقع.
نعم هو أمر حتمي للنهوض بواقع السياحة العلاجية بقيادة القطاع الخاص الذي يجب ان يكون هو المسؤول المحوري في آليات التسويق والاستقطاب وجذب المرضى، لانه الأقدر على ذلك، مقابل أن تساعد أجهزة القطاع العام على عمليات التنظيم وحسن إدارة وتنفيذ القوانين والتعليمات والأنظمة وتسهيل الإجراءات.
الأردن يجد نفسه أمام معركة مصيرية لاستعادة هيبته في السياحة العلاجية، لانه كان يوما وجهة أولى للسياحة العلاجية في المنطقة، لم يعد يملك رفاهية استنزاف فرصه، وتراجع أعداد الزوار، يضع تحديات كبيرة أمام القطاع، مما يفرض على الحكومة التحرك السريع لاستعادة الثقة وتقديم الأردن كخيار آمن وفعال.
المواقع الطبيعية التي يتمتع بها الأردن مثل البحر الميت وحمامات ماعين والحمة الأردنية ليست أدوات للترويج فقط، بل يجب أن تتحول إلى منصات إنتاج فعلية للسياحة العلاجية، ولا بد من فتح أسواق جديدة في أفريقيا وجنوب آسيا ليس خطوة استباقية، بل ضرورة لتعويض خسائر الأسواق التقليدية، فالتباطؤ في هذا المجال يعني خسارة فادحة، خاصة في ظل النمو المتسارع للسوق العالمي الذي من المتوقع أن يبلغ 755.39 مليار دولار بحلول 2034. الإستراتيجية الوطنية للسياحة العلاجية (2023-2027) ليست مجرد حبر على ورق؛ يجب أن تتحول إلى أفعال تنفذ بسرعة وحسم، فالبنية التحتية الطبية المتطورة لن تكون كافية إن لم تُدعم بإجراءات حاسمة تجذب المرضى.
الخيار الآن واضح: إما أن يستعيد الأردن مكانته في هذا القطاع أو يخسر موقعه أمام منافسين لا ينتظرون، فالقطاع الطبي الأردني أثبت جدارته سابقا، لكن السمعة وحدها لا تكفي؛ السوق يحتاج إلى حسم وتحرك فوري. على الحكومة أن تتابع بفعالية وبسرعة، خوفا من أن يجد الأردن نفسه خارج دائرة المنافسة في سوق عالمي يتوسع بوتيرة متسارعة، والوقت ليس في صالحنا، والحكومة والقطاع الخاص لا يملكان رفاهية الانتظار.
(2 )
للمشككين في أرقام السياحة
أثارت الأرقام الأخيرة التي أعلن عنها البنك المركزي حول الدخل السياحي حفيظة البعض، حيث شككوا في صحة هذه الأرقام ودقتها، ومثل هذه التشكيكات ليست جديدة، إذ يتكرر في كل مرة تصدر فيها مؤسسات رسمية أرقاماً لا تتماشى مع التوقعات أو ما يتم تداوله في بعض الأوساط الإعلامية.
البنك المركزي الأردني، كجهة محايدة وموثوقة، يستخدم منهجيات علمية دقيقة تتماشى مع أفضل الممارسات الدولية، ويتم احتساب الدخل السياحي بالاعتماد على مسح شامل للقادمين والمغادرين، تم تنفيذه بالتعاون مع دائرة الإحصاءات العامة ووزارة السياحة والآثار، ويُعتبر هذا المسح قاعدة بيانات دقيقة تتضمن تفاصيل حول غايات السفر، وأوجه الإنفاق المختلفة مثل الإقامة، والنقل، والطعام، والترفيه، والعلاج، والتسوق، واعتماد البنك المركزي على هذا المسح يضمن جودة البيانات العالية، ويحقق حوكمة متقدمة تضمن دقة الأرقام ومصداقيتها.
ورغم أن المسح المعتمد يعود إلى عام 2017، فإن البنك المركزي يقوم بعملية مراجعة مستمرة للبيانات وتحديثها وفقًا للتغيرات الاقتصادية والسياسية المحلية والعالمية، فالمنهجية التي يعتمدها البنك المركزي تتماشى مع دليل ميزان المدفوعات ووضع الاستثمار الدولي الذي وضعه صندوق النقد الدولي، والذي يحرص على توحيد منهجيات احتساب الدخل السياحي في مختلف دول العالم، وكل هذا يعزز من موثوقية الأرقام التي يصدرها البنك، ويزيل الشكوك حول دقتها.
بالانتقال إلى الأرقام، فإن تراجع أعداد السياح بنسبة 7 % خلال الفترة المذكورة يُعزى أساسًا إلى التصعيدات الإقليمية والتصعيد الإيراني وجنوب لبنان وحرب الإبادة على غزة، ولكن التحليل العميق للأرقام يبرز تفاوتًا ملحوظًا في تأثير هذه التوترات حسب جنسية السياح. وعلى سبيل المثال، انخفض الدخل السياحي من السياح الأوروبيين بنسبة 54.3 %، وهو تراجع كبير يظهر بوضوح أن السائح الأوروبي كان الأكثر تأثراً بالأوضاع الإقليمية، كذلك انخفض الدخل السياحي من السياح الأميركيين بنسبة 38.6 % ومن الجنسيات الأخرى بنسبة 20.4 %، مما يدل على أن السياحة من هذه الدول تأثرت بشكل مباشر بالاضطرابات الجيوسياسية في المنطقة.
على الجانب الآخر، نجد أن الأردنيين المغتربين والعرب قد زاد إنفاقهم السياحي في الأردن بشكل ملحوظ، حيث ارتفع الدخل السياحي من الأردنيين المغتربين بنسبة 4.9 % ومن السياح العرب بنسبة 10.9 %، وهذا الارتفاع ساهم بشكل كبير في التخفيف من حدة التراجع الكلي في الدخل السياحي. ولا تقتصر المنهجية التي يعتمدها البنك المركزي على إحصاء أعداد السياح وحسب، بل تشمل تقدير إنفاقهم بناءً على معايير دقيقة، حيث يتم تقدير الدخل السياحي على أساس شهري من خلال متابعة أعداد سياح المبيت وسياح اليوم الواحد حسب الجنسية، وبالنسبة لكل معبر حدودي، ويتم احتساب أوجه إنفاق كل سائح بناءً على نتائج المسح، حيث يعتمد البنك المركزي على مبدأ الإقامة كأساس للتصنيف؛ وبالتالي، يُحسب إنفاق الأردني المغترب ضمن الدخل السياحي كونه يُعتبر غير مقيم في المملكة أثناء زيارته. علاوة على ذلك، تخضع منهجيات البنك المركزي للمراجعة الدورية من قبل خبراء دوليين، بما في ذلك خبراء صندوق النقد الدولي، لضمان تطابقها مع المعايير الدولية، وإشادة صندوق النقد الدولي بهذه المنهجيات تعكس المستوى العالي من الشفافية والدقة في البيانات التي يصدرها البنك، مما يعزز من مصداقية الأرقام، ويدحض أي مزاعم حول التشكيك فيها.
في الختام، لا بد للمشككين أن يدركوا أن الأرقام التي يصدرها البنك المركزي ليست مجرد تخمينات، بل هي نتاج منهجيات علمية متطورة وخاضعة لمراجعة دولية دقيقة، وإن تراجع الدخل السياحي نتيجة التوترات الإقليمية ليس مدعاة للتشكيك، بل هو تأكيد على تفاعل القطاع السياحي مع الأحداث العالمية والإقليمية