اقتصاديات البوادي …
بقلم الدكتور صبري ربيحات
عندما كلفت بأن أضع مقدمة للتعريف بمعالي الدكتور صبري الربيحات أطلعت على ماكتبه السيد عبدالكريم عواد بتاريخ 26 نيسان 2019 على الفيسبوك فوجدت ما نشره السيد عواد من أجمل وأبلغ الكلام في وصف الدكتور اربيحات فأثرت أن يكون هذا النص الذي كتبه السيد عبد الكريم عواد مقدمة للتعريف بالدكتور صبري اربيحات والذي لن نستطيع أن نعطيه حقه في الثناء والتقدير ومهما كتبنا حول شخصيته يبقى الكلام غير مكتمل . (المحرر)
الدكتور صبري الربيحات- شخصية تستحق الاحترام والتقدير
فضلا عن وصفه علماً بارزاً في سماء الثقافة والأدب وعالما من علماء الاجتماع فقد تفرد بشخصية ممكنة متمكنة جمعت الأصالة والحداثة والمعاصرة بحكم ما اكتسب من خبرات تراكمية متنوعة جعلته يحظى باحترام الجميع لأنه عرف قدره ويعرفه الناس بقلبه الطيب وشخصه المتسامح.
يمتلك الدكتور صبري الربيحات ذاكرة وطنية تاريخية محدثة تخنزن معلومات وحقائق عن شخصيات ونماذج وطنية لم يكن الكثير منا يعرفها الا من خلال كتاباته عبر الوسائل الالكترونية………..ويؤمن الدكتور صبري بأن لكل إنسان قدره —-وبحكم التوازن في شخصيته فلم يقتصر قلمه النظيف كقلبه-على انصاف شخصيات بحد ذاتها وانما يتناول بالنقد والتحليل وذكر المزايا والسجايا لجميع من يتناولهم في كتاباته سواء اتفق أو اختلف معهم في النهج
وأظنه لم يبحث عن الشهرة فهو في غنى عنها وأشهر من أن يعرف……….وجعل من قلمه زائراً كريماً مرحب فيه حيثما طاف في كتاباته وحل وارتحل في نقله وترحاله
لم اعتد في حياتي على المديح ولكن: أنزلوا الناس منازلها
كل الاحترام والتقدير لشخص أبو عبد اللطيف بن الشيخ عبد اللطيف الذي نشأ في بيت من بيوت العز والكرم –حيث كانت تلك السيرة العطرة لوالده الشيخ عبد اللطيف أبو عقله الربيحات رحمة الله عليه
يوم في بوادي العز ….
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كنا كما الاباء والأجداد نشرب الماء اما من الينابيع او الغدران في الشتاء والربيع ,واما من الابار حين تبتعد منازلنا عن الينابيع ومصادر المياه السطحية في الصيف. وفي كل الأحوال كان ماء بلادنا يروينا وكنا قد تعودنا عليه حتى ولو اضطررنا الى تصفيته على مناديلنا قبل الشرب.
لم نكن نعرف المياه المعلبة التي تقدم في قوارير زجاجية وبلاستيكية الا لاحقا فقد ظهرت ماركة مياه الكوثر وتلتها غدير وبعدها جاءت مياه كنز.
ذات مرة كنت امازح احد الاصدقاء الذي يعمل في موقع مهم امنيا و يملك ابناءه احدى شركات المياه المعروفة انذاك قائلا من قال يا باشا اننا لا نكترث لامننا المائي انظر فجميع مؤسسات تعليب وتسويق المياه تأسست من قبل أشخاص ترأسوا مؤسسات تعنى بالامن.
كانت شركة مياه الكوثر تستخدم جملة إعلانية مؤثرة للترويج لمياهها وقد توسعت في استخدامها لدرجة ان الناس كانوا يرددونها دون أن يعرفوا او يشربوا او يجربوا منتجات تلك الشركة . كان اعلان مياه الكوثر يقول ” لا شيء يروي كالماء …ولا ماء يروي كالكوثر ”
اسوق كل هذا الكلام عن الماء وعن العطش وعن الامن وعن الونس لاقول ان لا شيء يقنع اذا لم يكن اصيلا متأصلا واصولنا ضاربة جذورها في البادية حيث نشأت القيم وعرف الناس لا بل عاشوا تحت سيادتها واحتكموا لها وتعارفوا على ما هو مناسب وغير مناسب وتوارثوا العادات والتقاليد والاعراف وتحددت مكانات الجميع بمدى القرب والالتزام بها او البعد عنها ومخالفتها.
كما يشعر احدنا بالعطش او ضيق النفس اشعر احيانا اني بحاجة لاعود الى البادية والقرية والى منازل الاهل لأتزود بجرعة اضافية من قيم الصدق ومعاني الكرم والرجولة والعطاء والانتماء البعيد عن التزلف والزبائنية المخيفة البشعة.
هذه القيم والمعاني التي اخاف ان يتلاشى تأثيرها علينا مع تسارع تقليعات التحديث وتحرر البعض من المعايير التي حكمت علاقاتنا و هيمنة بعض المستشرقين اللينين على مفاصل حياتنا ومحاولات الضرب على اكتافنا لنتقيأ ذواتنا ونستبدلها بالهويات المعلبة التي لا تشبهنا ولا نحسن تمثلها كما يراد لنا…
البادية الاردنية جنوبا ووسطا وشمالا لا زالت مدرستنا الأولى التي نتعلم فيها من نحن فهي مسقط راس هويتنا على كل ما كان فيها من غزو ونزاع واحلاف فقد كان ولا يزال فيها المروءة والانفة والعزة والكرامة التي لا تشتريها الصرر ولا العطايا ولا حتى اللعب على قواعد الاستزلام.
في كل مرة أزور فيها البادية تتملكني الرغبة بأن ابقى هناك ولا أعود فأول ما يأسرني رحابة الفضاء الذي يغوص فيه النظر ليصل الى المدى اللامتناهي من النور وأود لو أقف عند كل حجر تشكل على هيئة لا تشبه الحجارة التي يجاورها او اداعب أوراق شجيرة احتفظت بخضرتها بعد تجاوزها لأكثر من تسعين يوم حر لاهب..
في اللقاء ودعوة الغداء التي اكرمنا اللواء الطبيب متروك العون بدعوتنا لها يوم الجمعة الذي صادف الثاني من آب ٢٠٢٤ وضع على المناضد نسخا من الكتاب المصور الذي اعدته الباحثة غزوة العون حول البادية الشمالية واوجه الحياة والثقافة والتراث ونماذج التضحية لابناء هذا الجزء العزيز من الوطن.
كنت اقلب صفحات الكتاب الذي عرض لصور ٦٤ شهيد من ابناء صبحا وجوارها وقد دعوت صديقي فضل الدبيسي للنظر والتدقيق في صورتين الأولى لجمل التقطت الباحتة بورتريه له لتظهر تفاصيل وملامح وجهه والثانية لحوار لا يتجاوز عمره الشهرين بدى وكأنه غاضب متجهم . وسألت صاحبي عن تعليقه حول الصورتين بصفته ابنا لاحد اهم مربي الابل في البادية الشمالية خلال معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين.
الحقيقة التي لا يعرفها الكثير من ابنائنا هذه الايام أن لغتنا استعارت غالبية مفرداتها وتشابيهها ومبالغاتها وصورها الشعرية والبلاغية من البيئة التي عاش فيها الإنسان وحيوانه معا.” فلان جمل المحامل ” اي انه شديد لا يلين…وحتى في الاعراس” اطلق جملنا يسير ” اي اسمح لنا بأن ننطلق خصوصا عند قدوم الفاردة لأخذ العروس من بيت ابيها” وفلان فارس لا يشق له غبار وفلان ذيب اي انه عفيف وشجاع ووفي وهكذا.
نهار الامس كان مميزا فقد التقينا عن قرب مع شخصيتين كريمتين لهما في الوجدان الاردني الكثير من المحبة والاحترام والتقدير ..
على مائدة صديقنا الدكتور متروك كان لي شرف لقاء احد اهم رجالات الاردن الذين رافقوا جلالة المرحوم الملك الحسين بن طلال لعقود فقد لازم الحسين ورسخت ملامحه لتشكل احد محركات الرضا والراحة التي تنبعث في نفوسنا كلما تذكرنا الراحل العظيم وانجازاته وتواصله ومحبيه وصوته الذي طالما طرد الخوف والقلق من نفوسنا كلما اشتدت الخطوب
الفريق الشيخ حميدي الفايز ليس جنديا وفارسا وشيخا احب وطنه فحسب ويعتز بأن نال شرف ثقة قائده به ليوكل له المهمة التي لا تستند الا أوفى الأوفياء بل هو شخصية وطنية لها سمت اردني يشبهنا شعاره كشعارنا ” ان ثقل حمل الاردن نشيله على اكتافنا ولا نقول اخخخخ ”
او كما قال الشاعر الراحل حبيب الزيودي ” وان ثقل حملك نشيلك شيل . و نميل الرأس بعقال”
حميدي الفايز أبدى عتبا ودودا على مؤسساتنا عتب المحب الغيور الذي يفخر بأنه اردني كان ولا يزال وسيبقى يعطي ما يستطيع بلا منة.
في جولة بعد الظهر توقفنا في منزل الشيخ عبدالله العون نجل المرحوم زايد العون احد اهم رواد التنمية في الاردن والأب الحقيقي لفكرة تحول صبحا من الرعي الى الزراعة الحديثة القينا التحية على ابناءه لنزور بعدها مضارب عشيرة الماضي العيسى ونهنئهم باحتفالات زفاف احد ابناءهم ونستكمل رحلتنا شرقا مرورا بام القطين ووصولا الى المكيفتة .
في المكيفتة التقينا في ديوان الصديق طلال الشرفات بمجموعة من رجالات البادية ممن لبوا دعوة ابو حازم للعشاء الذي اقامه تكريما للفريق فاضل علي فهيد السرحان وجمع كريم من وجهاء وشيوخ القبائل الاردنية .
بالنسبة لي كان اليوم مميزا فعلى الرغم من اني اعرف جيدا الباشا ابو بسام وتشرفت ان عملت في معيته في اواخر ايام خدمتي الشرطية وكنت قريبا جدا وواحدا من المعنيين بتقديم الدراسات والاستشارات.ومع اني اعرف سمت الرجل وخصائصة وطيبته ورؤيته التي تتسامى على كل الصغائر الا اني احب ان اراه كلما اتيحت لي الظروف ..
هذه المرة كنت ارى فاضل علي وصورة الباشا الفايز لا تزال في راسي فقد امضيت بعض الوقت معه في بلدة صبحا المجاورة وهما رجلان كريمان يتشابهان في السيرة والتكوين والقرب من الراحل العظيم وحتى في الصورة الذهنية لهما كان لكل منهما سجل مشرف وقدم كل منهما ما عليه على أكمل وجه بلا ضجيج فتركا اعمالهما وانجازاتهما تتكلم وبقيا على القسم .
على جانب الارض والانسان اكرمني اخي فضل الدبيس “ابو جمال ” بأن اصطحبني في جولة رائعة على حافة الارض الاردنية واوقفني على نقطة الحدود الاردنية السورية في جنبات مزارعه النموذجية التي يملؤك التجوال داخلها وحولها بالفخر لهذا الانجاز المبهر ويدفعك للسؤال كيف لرجل بدوي بعد ان افنى شبابه في الخدمة العامة ان ينجز هذه التحفة الزراعية في زمن قياسي .
لقد اضافت هذه الجولة لانطباعاتي التي تراكمت بعد زياراتي المتكررة الى مزارع العون بصحبة الأخوين مهدي واحمد العون ومشاهدتنا لعناقيد العنب وهي تتدلى كثريات الذهب والحديث المفيد والممتع مع العمال والاطفال اشياء كثيره عن الارض والانسان والارادة والأخوة والنبل .
كل المحبة للبادية الاردنية واهلها ولكل الاصدقاء الذي نشعر في بيوتهم اننا في وطنا