الدين العام في الأردن
بقلم :سلامة الدرعاوي
(1)
يتحدث كثيرون باستمرار عن مديونية الأردن باعتبارها الأعلى في المنطقة من حيث الأرقام المطلقة والنسب المئوية، ولكن الحقيقة تختلف عن تلك التحليلات والانطباعات من عدة جوانب. فثقة المستثمرين الدوليين بقوة الاقتصاد الأردني تتزايد من عام لآخر، رغم التحديات والمستجدات الطارئة في الإقليم.
فإذا ما نظرنا إلى تطور حجم المديونية، نجد أن الأردن ضاعف الدين العام بأقل من ثلاث مرات خلال الفترة من 2010-2023، وفقاً لقاعدة بيانات صندوق النقد الدولي، وتحديداً تضاعف بمقدار 2.9 مرة، بينما تضاعفت المديونية في كل من تركيا 16.4 مرة، الجزائر 13.1 مرة، عُمان 11.2 مرة، مصر 11 مرة، البحرين 7.2 مرة، السعودية 6.3 مرة، بوليفيا 5.1 مرة، إندونيسيا 4.6 مرة، تونس 4.3 مرة، سنغافورة 3.3 مرة، الإمارات 2.8 مرة، المغرب 2.7 مرة، قطر 2.5 مرة، أميركا 2.3 مرة، فرنسا 1.8 مرة، اليابان 1.4 مرة.
أما فيما يتعلق بنصيب المواطن من الدين، فنجد أنه في الأردن بلغ 4.1 ألف دولار، وهو أقل بكثير مما هو عليه في العديد من الدول الأخرى مثل أميركا 99.7 ألف دولار، اليابان 85.3 ألف دولار، كندا 57.4 ألف دولار، البحرين 35.2 ألف دولار، قطر 31 ألف دولار، الإمارات 16 ألف دولار، تركيا 3.7 ألف دولار، ومصر 3.6 ألف دولار، وهذا بالطبع له علاقة بعدد سكان تلك الدول.
مما سبق، نجد أن المملكة تحتل مرتبة متوسطة بين الدول المدينة وهي في اتجاه مستقر، والدليل أن جميع تحليلات صندوق النقد الدولي وبيوت الخبرة لديون المملكة لا تبعث على القلق الشعبي الذي يصوره البعض، بل ترسل رسائل تأكيد على ضرورة مواصلة الإصلاح ودفع عجلة النمو للأمام.
هذه النظرة التحليلية للدين ليست وليدة انطباعات بقدر ما هي حصيلة مؤشرات مالية فنية، فاستدامة الدين العام في الأردن وفقًا لتقارير بيوت الخبرة الدولية تتقارب فيما بينها، حيث ترى أن استمرار الأردن في النهج المالي والنقدي الحالي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي سيفضي في النهاية إلى تراجع نسبة الدين إلى الناتج من 89.2 % في عام 2023 إلى 75.2 % في عام 2029 وفقاً لتقديرات الصندوق، مستندين في ذلك إلى معطيات متعلقة بصافي التغير في رصيد الدين السنوي، والمساعدات الخارجية، وتطورات أسعار الفائدة، ومعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي المقدرة للسنوات المقبلة، وهي معدلات مقبولة ضمن دائرة التحوط.
لذلك، صحيح أن هناك تزايدًا نسبيًا ملحوظًا في حجم المديونية في الأردن، ولكنه يبقى في إطار تلبية الاحتياجات التمويلية ضمن السقوف المرنة والمساحات المالية التي تمتلكها المملكة، مع مسار تصاعدي مشابه لما يحدث في دول العالم كافة، سواء الغنية أو الفقيرة
(2) .
تطور هيكل الدين في الأردن يرتبط بشكل كبير بالأحداث الإقليمية والدولية أكثر من المستجدات المحلية، فقد بلغ الدين العام في الأردن حتى نهاية حزيران من العام الحالي 42.5 مليار دينار، أو ما نسبته 114.7 % من الناتج المحلي الإجمالي. ويشمل هذا المجموع دين صندوق الضمان، الذي سيكون له مقال خاص لاحقًا، وما يهمنا هنا هو كيف ينظر المانحون والمؤسسات الدولية إلى هيكل الدين، وهو بلا شك مستثنى منه دين “الضمان”، وبذلك يكون مجموع الدين العام للمملكة حوالي 33 مليار دينار، أو ما نسبته 89.0 % من الناتج. الرقم السابق للدين العام في الأردن شهد تطورات هيكلية جديرة بالاهتمام والمراقبة من حيث النسب والأرقام المطلقة، فإذا دققنا حجم الدين ونسبه إلى الناتج خلال السنوات 2017-2024، سنجدها على النحو الآتي: 2017: 22.4 مليار دينار أو ما نسبته 75.7 % من الناتج المحلي، 2018: 22.9 مليار دينار أو ما نسبته 74.3 %، 2019: 24 مليار دينار أو ما نسبته 75.8 %، 2020: 26.5 مليار دينار أو ما نسبته 85.4 %، 2021: 28.8 مليار دينار أو ما نسبته 87.6 %، 2022: 30.7 مليار دينار أو ما نسبته 88.6 %، 2023: 32.3 مليار دينار أو ما نسبته 89.2 %، حزيران 2024: 33 مليار دينار أو ما نسبته 89.0 % من الناتج. يلاحظ من تطورات حجم الدين ونسبه أن العام 2020 كان عاماً فارقاً في هذا المجال، حيث شهد زيادة كبيرة وغير مسبوقة إطلاقاً، إذ قفز حجم الدين من 24 مليار دينار (75.8 % من الناتج) إلى 26.5 مليار دينار (85.4 % من الناتج)، حيث يعود السبب في ذلك، تحديداً، إلى أزمة كورونا وما فرضته الجائحة من ضغوطات مالية هائلة على الاحتياجات التمويلية للخزينة، حيث ألقت فترات الحظر الشامل والجزئي في تلك السنة بتداعيات خطيرة على معظم الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية في الدولة، الأمر الذي أدى إلى تراجع كبير في حصيلة الإيرادات الحكومية، رافق ذلك زيادة النفقات الصحية والاجتماعية الطارئة والملحة، إضافة إلى التزام الحكومة بدفع التزاماتها الداخلية كافة من رواتب العاملين وهم في بيوتهم لأشهر من دون عمل، وتسديد التزاماتها من أقساط وفوائد الدين الداخلي والخارجي، أبرزها سندات يورو بوند بقيمة 1.25 مليار دولار التي استحقت في شهر تشرين الأول من العام ذاته من دون تأخير. كل هذه العوامل فرضت على الحكومة القيام بواجباتها تجاه احتياجاتها التمويلية المتزايدة والطارئة، مما أدى إلى زيادة الدين العام بقيمة 2,540.6 مليون دينار دفعة واحدة خلال العام 2020، رافق ذلك انكماش اقتصادي بنسبة 1.1 % في الناتج خلال العام نفسه، مما أدى بالمحصلة إلى ارتفاع نسبة الدين العام (نسبة التغير في الدين) في ذلك العام بـ9.6 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، علماً بأن التغير السنوي في الدين كقيمة مطلقة وكنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي كانت في سنوات المقارنة كالآتي: 2018: 526.8 مليون دينار أو ما نسبته -1.4 % من الناتج (انخفاض في النسبة رغم ارتفاع حجم الدين)، 2019: 1,075.3 مليون دينار أو ما نسبته 1.5 % من الناتج، 2020: 2,540.6 مليون دينار أو ما نسبته 9.6 % من الناتج، 2021: 2,263.9 مليون دينار أو ما نسبته 2.1 % من الناتج، 2022: 1,904.5 مليون دينار أو ما نسبته 1.1 % من الناتج، 2023: 1,621.7 مليون دينار أو ما نسبته 0.6 % من الناتج، حزيران 2024: 699.9 مليون دينار أو ما نسبته -0.2 % من الناتج (انخفاض في النسبة رغم ارتفاع حجم الدين). وهنا يتضح من خلال الأرقام والنسب انعكاس واضح لتداعيات جائحة كورونا، وما نجم عنها من انكماش اقتصادي على الموازنة العامة خلال العام 2020، مما أثر سلباً في حصيلة الإيرادات المحلية، وأدى إلى ارتفاع عجز الموازنة بعد المنح الخارجية بمقدار 3.7 نقطة مئوية، ليصل إلى ما نسبته 7 % من الناتج المحلي الإجمالي (2,182.4 مليون دينار). أي أن كورونا أسهمت بشكل مؤكد في حدوث قفزة غير اعتيادية في رصيد دين الحكومة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 9.6 نقطة مئوية، حوالي (2,540.6 مليون دينار)، لتتجاوز 85 % من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية العام 2020.
(3)
إحدى أبرز الإشكاليات النقاشية في موضوع مديونية الأردن هي استدانة الحكومة من صندوق أموال الضمان الاجتماعي، والتي بلغت حتى نهاية شهر حزيران 9.5 مليار دينار، وتشكل ما نسبته 61.3 % من موجودات الصندوق، التي بلغت حتى نهاية النصف الأول 15.5 مليار دينار.
رقم الاستدانة (9.5 مليار دينار) يشكل مادة خصبة باستمرار لانتقاد الحكومة وإثارة التخوفات حول لجوئها المستمر لأموال “الضمان”، والتي يرى الكثير من المتابعين أنه لا يجوز للحكومة الاقتراض منه بهذا الشكل، ويجب عليها البحث عن بدائل أخرى، وترك الصندوق ليستثمر في قطاعات أخرى غير سندات الخزينة.
طبعاً، مبررات رفض إقدام الحكومة على الاقتراض من صندوق الضمان تتمثل في المخاوف من عدم تمكن الحكومة من السداد، وبالتالي ضياع أموال الصندوق التي هي أموال المشتركين، بالإضافة إلى أسباب أخرى تحتاج إلى توضيح علمي وعملي. بداية، لا بد من الإشارة إلى أن إحدى أفضل وأنجع الأدوات الاستثمارية التي عادة ما تلجأ إليها الصناديق الاستثمارية في مختلف دول العالم، خاصة صناديق الضمان الاجتماعي، هي المشاركة الاستثمارية في السندات التي تطرحها الخزينة عبر البنوك المركزية، وهو الحال الذي ينطبق أيضاً على المشهد المحلي.
صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي يملك كافة الاستقلالية في اتخاذ القرار الاستثماري بالمشاركة في سندات الخزينة أم لا، فهو صاحب القرار الذي يراه مناسباً في الدخول في تلك السندات بناءً على الجدوى الاقتصادية للفرصة المتاحة، وهناك العديد من الحالات التي لم يدخل فيها الصندوق في السندات التي حصلت عليها البنوك وبعض الشركات المالية المسموح لها بالمشاركة
لكن إدارة صندوق الضمان تدرك تماماً من الناحية الاقتصادية أن جدوى الاستثمار في سوق السندات هي الأكثر فاعلية في تحقيق الأرباح وزيادتها بسرعة وبحجم كبير بأقل درجة من المخاطر، كما هو حاصل اليوم. فمحفظة السندات تشكل أكثر من 55 % من إجمالي محفظة الضمان، وأرباحها لوحدها تزيد على 50 % من إجمالي أرباح الضمان المتحققة.
ولو كان هناك قطاعات استثمارية أكثر جدوى من السندات، لتوجهت إليها أنظار وآليات الصندوق للاستثمار فيها، لكن ما زالت سوق السندات في المملكة، مثلها مثل غيرها من الأسواق، الأكثر جدوى في الأرباح المتحققة فعلياً. بالنسبة للحكومة، فلم يسبق أبداً في تاريخها أن تخلفت عن سداد ديون صندوق الضمان، فهي تتعامل معها مثلها مثل أي ديون خارجية أو سندات يوروبوندز عالمية، ولا يوجد ما يقلق في هذا الجانب، ولا ننسى أن الضمان واستمراريته هو جزء أصيل لا ينفصل عن استمرارية الاستقرار الاقتصادي في الأردن.
أما بالنسبة للتخوفات من أن الحكومة تستحوذ على غالبية أموال الصندوق، وأن الأخير لم يعد لديه أموال قادرة على تلبية احتياجاته التمويلية لنفقات المتقاعدين مستقبلاً، فهذا كلام لا يتوافق مع الأساسات المالية الأساسية للصندوق، ولا يعكس معرفة بحجم الوفورات المتحققة على أرض الواقع. والدليل على ذلك أن التغير في رصيد الحيازات للصندوق من أوراق الدين الحكومية يتسع مع توسع قاعدة الأرباح والملاءة المالية للصندوق، والتي تشير الأرقام الرسمية إلى ارتفاع حيازات الضمان إلى 25.7 % من الناتج المحلي الإجمالي حتى نهاية شهر حزيران 2024، بعد أن كانت 17.5 % في عام 2018، في حين بلغت تلك الحيازات بالأرقام المطلقة 9.5 مليار دينار مع نهاية حزيران 2024، وبنسبة تغير 1.1 % من الناتج عن نهاية العام الماضي.
الحكومة تمتلك أدوات متعددة للاقتراض الداخلي، منها البنوك التي تملك سيولة متاحة للإقراض تزيد عن 5 مليارات دينار في نهاية شهر حزيران 2024، وبالتالي، ليس صحيحاً أن الحكومة تلجأ إلى الاقتراض من الصندوق لفقدان وسائل التمويل الداخلي كما يروّج البعض، بل المسألة تتعلق بأبعاد اقتصادية وفنية بحتة مرتبطة بالجدوى الاقتصادية وتنويع خيارات التمويل فقط لا غير. أخيراً، يعتبر إقراض الحكومة استثماراً آمناً نسبياً لصندوق الضمان، حيث يمكن أن يوفر عوائد ثابتة ومستقرة تعود بالنفع على المشتركين في الصندوق، ويساعد على تعزيز الاستقرار الاقتصادي من خلال تمويل الاحتياجات الحكومية العاجلة بشكل مؤقت دون التأثير في الاستقرار المالي العام، كما يمكن أن يؤدي الإنفاق الحكومي الممول من قروض الضمان إلى تحفيز الاقتصاد عن طريق زيادة الإنفاق على المشاريع والخدمات العامة، مما يدعم الوظائف، ويعزز الطلب في السوق
(4)
–يتحدث كثيرون باستمرار عن مديونية الأردن باعتبارها الأعلى في المنطقة من حيث الأرقام المطلقة والنسب المئوية، ولكن الحقيقة تختلف عن تلك التحليلات والانطباعات من عدة جوانب. فثقة المستثمرين الدوليين بقوة الاقتصاد الأردني تتزايد من عام لآخر، رغم التحديات والمستجدات الطارئة في الإقليم.
فإذا ما نظرنا إلى تطور حجم المديونية، نجد أن الأردن ضاعف الدين العام بأقل من ثلاث مرات خلال الفترة من 2010-2023، وفقاً لقاعدة بيانات صندوق النقد الدولي، وتحديداً تضاعف بمقدار 2.9 مرة، بينما تضاعفت المديونية في كل من تركيا 16.4 مرة، الجزائر 13.1 مرة، عُمان 11.2 مرة، مصر 11 مرة، البحرين 7.2 مرة، السعودية 6.3 مرة، بوليفيا 5.1 مرة، إندونيسيا 4.6 مرة، تونس 4.3 مرة، سنغافورة 3.3 مرة، الإمارات 2.8 مرة، المغرب 2.7 مرة، قطر 2.5 مرة، أميركا 2.3 مرة، فرنسا 1.8 مرة، اليابان 1.4 مرة.
أما فيما يتعلق بنصيب المواطن من الدين، فنجد أنه في الأردن بلغ 4.1 ألف دولار، وهو أقل بكثير مما هو عليه في العديد من الدول الأخرى مثل أميركا 99.7 ألف دولار، اليابان 85.3 ألف دولار، كندا 57.4 ألف دولار، البحرين 35.2 ألف دولار، قطر 31 ألف دولار، الإمارات 16 ألف دولار، تركيا 3.7 ألف دولار، ومصر 3.6 ألف دولار، وهذا بالطبع له علاقة بعدد سكان تلك الدول.
مما سبق، نجد أن المملكة تحتل مرتبة متوسطة بين الدول المدينة وهي في اتجاه مستقر، والدليل أن جميع تحليلات صندوق النقد الدولي وبيوت الخبرة لديون المملكة لا تبعث على القلق الشعبي الذي يصوره البعض، بل ترسل رسائل تأكيد على ضرورة مواصلة الإصلاح ودفع عجلة النمو للأمام.
هذه النظرة التحليلية للدين ليست وليدة انطباعات بقدر ما هي حصيلة مؤشرات مالية فنية، فاستدامة الدين العام في الأردن وفقًا لتقارير بيوت الخبرة الدولية تتقارب فيما بينها، حيث ترى أن استمرار الأردن في النهج المالي والنقدي الحالي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي سيفضي في النهاية إلى تراجع نسبة الدين إلى الناتج من 89.2 % في عام 2023 إلى 75.2 % في عام 2029 وفقاً لتقديرات الصندوق، مستندين في ذلك إلى معطيات متعلقة بصافي التغير في رصيد الدين السنوي، والمساعدات الخارجية، وتطورات أسعار الفائدة، ومعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي المقدرة للسنوات المقبلة، وهي معدلات مقبولة ضمن دائرة التحوط.
لذلك، صحيح أن هناك تزايدًا نسبيًا ملحوظًا في حجم المديونية في الأردن، ولكنه يبقى في إطار تلبية الاحتياجات التمويلية ضمن السقوف المرنة والمساحات المالية التي تمتلكها المملكة، مع مسار تصاعدي مشابه لما يحدث في دول العالم كافة، سواء الغنية أو الفقيرة
(5)
. النتائج والاستناجات
– لم يتأخر الأردن يوما عن الوفاء بالتزاماته المالية رغم كل التحديات
– على “المالية” اتباع آلية رشيدة ومنفتحة بشرح هيكل الدين ومبرراته
– الحكومة تختار الوقت المناسب للولوج للأسواق العالمية بالتخطيط
– كورونا أدت إلى حدوث قفزة غير اعتيادية في رصيد دين الحكومة
– 55 % من أرباح صندوق الضمان متحققة من السندات الحكومية
– سلامة النهج المالي في المملكة تؤكده مؤسسات التصنيف الائتماني
في ضوء ما تقدم وجب علينا الخروج ببعض النتائج والاستنتاجات التي هي وليدة هذا البحث المستند إلى المعطيات الرقمية الحقيقية وسيناريوهات سياسية واقتصادية متعددة.
علينا أن نأخذ في تحليلنا هيكل الدين العام بوضعه النهائي بنظرة شمولية بعيدة عن المؤشرات الظاهرية فقط، فالمسببات لها ارتباطات كبيرة بحجم الدين وتطوره، وهو يعكس أيضاً استمرارية عمليات الإصلاح المالي ومدى التفاوت في الأداء من فترة لأخرى.
الدين العام الذي باتت نسبته تقترب من 115 % من الناتج المحلي الإجمالي أمر مقلق، ولا أحد ينكر هذا القلق المشروع، لأنه سيستنزف موارد الدولة التي يجب توجيهها نحو المشاريع الرأسمالية المنتجة والمشغلة والداعمة للنمو الاقتصادي، فهناك ما يقارب 2 مليار دينار كخدمة الدين التي تُدفع سنويًا، وهو رقم كبير يشكل ما يقارب 18 % من حجم إنفاق الموازنة. ولو تراجع هذا الرقم، لكانت المخصصات للاستثمار والتشغيل ومحاربة الفقر والبطالة أكبر، والجهود والنتائج الإيجابية ستتضاعف، لكن مسببات نمو الدين الاستثنائية استنزفت الكثير من موارد الدولة المتاحة والمحدودة أصلاً.
رقم الدين العام، والمضاف إليه دين صندوق الضمان الاجتماعي (42 مليار دينار)، في الأرقام المطلقة هو أيضًا مقلق وضاغط على موارد الدولة، وهي أرقام محل تداول للرأي العام بين الفترة والأخرى، وفي كثير من الأحيان تخرج تلك التحليلات عن محددات المنطق الاقتصادي الرشيد.
ولعل الوصول لمرحلة الحوار العشوائي حول الدين في بعض الأحيان يبرره، ويستند إلى مشروعية عالية أبرزها غياب الحوار العقلاني والمنطقي من الحكومة، وتحديدًا من وزارة المالية صاحبة الولاية في هذا الأمر.
وهناك غياب كامل للخطاب الإعلامي الاقتصادي المنفتح مع الرأي العام حول موضوع الدين، الذي من الواجب على الوزارة أن تتبع آلية رشيدة ومنفتحة في التواصل العلمي والعملي لشرح هيكل الدين ومبرراته بشكل عام، وأن الأمر تحت السيطرة والمعرفة الكاملة بالتوجهات، وليس متروكًا للقضاء والقدر كما يتصوره البعض.
علينا أن نعترف بأن التقصير في إدارة الحوار حول المديونية لا يتحمله الشارع بقدر ما هي مسؤولية رئيسية تقع على عاتق وزارة المالية، ولو كان الحوار يتم بطريقة مؤسسية ومنهجية منفتحة، لذهبت الكثير من الإشاعات والكلام غير الموزون أو غير المنطقي عن الدين أدراج الرياح.
فالحوار العلمي والعملي الجريء كفيل بإزالة الشوائب حول أي موضوع مثار للجدل من قبل الرأي العام، فكيف الحال بموضوع مثل المديونية الذي يهم كل صغير وكبير، ويهم أجيال اليوم والمستقبل؟ فالمعلومة الصحيحة والسليمة والصادقة والتي تخرج في وقتها كفيلة بتعزيز الثقة في السياسة الرسمية في أي موضوع كان.
وهنا لا بد لنا بعد هذه المقدمة أن نخرج بمجموعة من النتائج والاستنتاجات التي قد تجيب على بعض تساؤلات المحللين والرأي العام المهتم بشأن المديونية وتطوراتها:
– إن ارتفاع مستوى الدين العام لا يكون المعيار الأوحد للحكم النهائي على وضع المديونية والمخاطر المترتبة عليها.
– كما أن الدين العام في الأردن مستدام خلال السنوات القادمة، وهذا ما تؤكده الدراسات المختصة الصادرة عن أهم بيوت الخبرة في العالم، والتي جميعها تخرج بنتيجة واحدة وهي استدامة الدين العام في الأردن تحت سيناريوهات متعددة.
– إن برنامج الإصلاح المالي والهيكلي الذي اعتمدته الحكومة بدعم من صندوق النقد الدولي يهدف إلى وضع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على مسار تنازلي، ليصل إلى أقل من 80 % من الناتج في نهاية عام 2028.
ويتضح جليًا من خلال المعطيات الرقمية والواقع الفعلي لهيكل الدين وآليات التعامل الرسمي معه أن الحكومة لديها رؤية واضحة عن التكاليف المالية المرتبطة بالدين خلال السنوات القادمة، حيث تمتلك استراتيجية للدين العام ذات بعد تنظيمي تعكس شفافية إدارة ملف الدين العام في المملكة وملتزمة بتطبيقها.
ولا بد من التنويه الواضح لمدى انعكاس تداعيات جائحة كورونا وما نجم عنها من انكماش اقتصادي على الموازنة العامة خلال عام 2020، والذي أثر سلبًا على حصيلة الإيرادات المحلية، وأدى إلى ارتفاع عجز الموازنة العامة بعد المنح الخارجية بمقدار 3.7 نقطة مئوية، ليصل إلى ما نسبته 7 % من الناتج (2,182.4 مليون دينار).
كما أدت الجائحة إلى حدوث قفزة غير اعتيادية في رصيد دين الحكومة كنسبة من الناتج، بنحو 9.6 نقطة مئوية (حوالي 2.540,6 مليار دينار)، ليتجاوز بذلك حاجز 100 % من الناتج في نهاية عام 2020.
ومع كل ذلك، لم تلجأ الحكومة إلى الخيارات السهلة للتعامل مع التحديات التي برزت أمام السياسة المالية، بل اختارت طريق التصدي للتحديات مرتكزة على رفع الكفاءة في إدارة المالية العامة، والتي تظهرها ارتفاع نسب تحصيل الإيرادات المحلية بعد الجائحة، لتتجاوز التحصيلات المتحققة فعليًا حاجز 100 % من التقديرات المستهدفة في قوانين الموازنة العامة، حيث بلغت نسبة التحصيل الفعلية ما نسبته 104 % و107 % لعامي 2021 و2022 على التوالي، ولتبلغ 96.2 % لعام 2023، مقارنة مع ما نسبته 89.2% بالمتوسط، خلال الفترة (2017 – 2019) قبل الجائحة. كما لم تلجأ الحكومة إلى تخفيض نفقاتها الرأسمالية كسبيل لمعالجة الحيز المالي الضيق الذي تعاني منه، حيث شهدت النفقات الرأسمالية ارتفاعًا كنسبة من الناتج خلال السنوات التي تلت الجائحة، مُسجلة ما نسبته 3.9 % من الناتج بالمتوسط، مقابل 3.2 % من الناتج بالمتوسط خلال الفترة (2017 – 2019)، ومحققة أعلى نسبة لها خلال عام 2022 (4 % من الناتج)، كما ارتفعت حصة النفقات الرأسمالية من إجمالي الإنفاق العام بحوالي 1.3 نقطة مئوية بعد الفترة التي تلت الجائحة، لتشكل ما نسبته 12.8 % بالمتوسط، مقارنة مع 11.5 % بالمتوسط خلال الفترة (2017 – 2019).
ورغم كل التحديات، لم يتأخر الأردن يومًا عن الوفاء بالتزاماته المالية، وفي ذروة الجائحة، صمدت الحكومة وسددت 1.25 مليار دولار سندات يوروبوند استحقت عليها في شهر تشرين الأول من عام 2020.
من جانب آخر، ووفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي، تضاعف حجم الدين العام في الأردن أقل من 3 مرات منذ عام 2010 مقارنة مع 2.5 مرة في قطر، وأكثر من 16 مرة في تركيا عن مستواه في بداية الفترة، وتمتلك الحكومة خيارات تمويل محلية متنوعة (مصادر بنكية، ومصادر غير بنكية) توفر المرونة لتأمين الاحتياجات التمويلية اللازمة لها.
سلوك الحكومة في الاقتراض يتمتع بمرونة عالية في القرار، فالحكومة تختار الوقت المناسب للولوج إلى الأسواق العالمية من خلال التخطيط المستمر ومتابعة الأسواق وتحليلها، والتقييم الدقيق للوضع الاقتصادي العام.
السياسات الرسمية في إدارة الدين أدت فعليًا إلى انخفاض حجم المخاطر التي قد تترتب على عملية إعادة التمويل، في ظل وجود سيولة كافية متاحة للإقراض لدى البنوك، ووفورات كافية لدى صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي.
ولا بد من التنويه إلى أن أكثر من نصف مصادر الدين الخارجي (55.1 %) هي قروض ميسرة، بأسعار فائدة تفضيلية وذات آجال استحقاق طويلة الأجل.
ويتضح جليًا أن الاقتصاد الوطني قادر على توفير موارد ذاتية للعملة الصعبة (صادرات من السلع والخدمات، وحوالات العاملين في الخارج، والاستثمار الأجنبي المباشر،…إلخ) يستفاد منها لتغطية الالتزامات المالية لخدمة الدين الخارجي. كما أنه وفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي، حصة المواطن الأردني من الدين العام (4.1 آلاف دولار) تقل عن العديد من الدول الأخرى، لذلك سلامة النهج الاقتصادي والمالي في المملكة تؤكده شهادة مؤسسات التصنيف الائتماني، وهي رسالة قوية بالثقة في السياسات الاقتصادية والإصلاحات التي انتهجها الأردن، مثل رؤية التحديث الاقتصادي.
إن رفع التصنيف الائتماني الخاص بالأردن الذي قامت به وكالة موديز من B1 إلى Ba3؛ وتغيير النظرة المستقبلية من إيجابية إلى مستقرة يمثل أول رفع لتصنيف الأردن الائتماني منذ 21 سنة، كما قامت وكالة “كابيتال إنتليجنس” برفع التصنيف الائتماني للأصول السيادية الأردنية طويلة الأجل المقومة بالعملتين المحلية والأجنبية من BB- إلى BB مع تعديل النظرة المستقبلية من إيجابية إلى مستقرة، فيما قامت وكالة فيتش بتثبيت التصنيف الائتماني السيادي للمملكة طويل الأجل ليبقى عند مستوى BB مع نظرة مستقبلية مستقرة.
إن رفع التصنيف الائتماني للمملكة من شأنه المساهمة في تخفيض تكاليف الاقتراض مستقبلاً، وتحسين ثقة المستثمرين، وزيادة القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية، وهو ما قد يؤدي إلى جذب الاستثمار وتعزيز التنمية الاقتصادية.